• ٢٨ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٩ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الشريعة الإلهية والعدالة الإلهية

د. توفيق الشاوي

الشريعة الإلهية والعدالة الإلهية
◄أعداؤنا يهاجمون شريعتنا بحجة أنها دينية المنبع، مع أن ذلك أوّل مزاياها التي تحتاجها الإنسانية لكي يستقيم أمرها – ذلك أنّ العدالة البشرية لا تكفي لزجر المنحرفين عن طريق الغواية والفساد – لأنها قاصرة محدودة الأثر، فهي تقرر عقوبات لا تطبق إلا على نسبة محدودة من مرتكبي الجرائم، فكل مشتغل بالقانون من رجال الأمن أو القضاء يعرف أن 50% من الجرائم لا تعرفه الشرطة أو الحكومة، و50% الأخرى الشرطة تبحث عنها ولا تعرف من ارتكبها، وفي الحوادث الأخرى فإن ما نسبته 50% أيضاً يجمع المحقق أدلة حوله، ولكنها أدلة غير كافية عند الشرطة أو عند النيابة أو قاضي التحقيق، وتحفظ الدعوى لأنّ الأدلة غير كافية. إنّ الربع أو الأقل من الربع مما يبلغ للسلطات يقدم للمحكمة وهذه المحكمة تبرئ كثيراً من المتهمين المتقدمين إليها من النيابة، فالمدانون أقل من الثمن. إنّ من في القضاء وفي النيابة يعرف هذا لأن أكوام الشكاوى والقضايا تتكدس، لكن لا يذهب إلى المحكمة إلا أقل من الربع، ولا يحكم بالإدانة فيه إلا في نصفه أو ربعه. هذا إذا قلنا إننا طبقنا القانون تطبيقاً صحيحاً، في حين أن هذا ليس مؤكداً في جميع الحالات، لأنّ القضاة أنفسهم كثيراً ما يخطئون، والرسول (ص) قال: "إنكم تحتكمون إليَّ، وقد يكون منكم من هو ألحن بحجته فأقضي له بما ليس حقه، فعليه ألا يأخذه..." فهذا النبي المرسل يحذرنا من أن حكمه قد يكون غير عادل نتيجة عجز أحد الخصوم عن بيان حجته. وهذا هو ما يحصل عندنا يومياً في قضائنا، خصوصاً أنّ الفصاحة أصبحت أول صفات المحامين وكبارهم الذين يمكن للأغنياء وحدهم الاستعانة بهم. وكثيراً ما نرى المتهم يحصل على البراءة لأنّه غني يوكل محامياً قديراً يكون ألحن بحجته، كما قال رسولنا الكريم، أما الفقير، فقد يعجز عن توكيل محام، أو يكون له محام لا يحسن الدفاع ويحكم عليه بالإدانة، ويكون الحكم صحيحاً قانوناً، ولكنه ليس صحيحاً ديانة – وقد تكون نسبة الخطأ في الأحكام أكبر حسب خبرة القاضي أو ظروف أحد الطرفين أو المحامين في القضية. النتيجة أن أحكام الإدانة في القضايا قد يكون ضمنها نسبة من الأحكام الخاطئة لأنّ القضاة بشر وهم معرضون للخطأ، ورسولنا الكريم الذي اختاره الله قدوة للناس وإماماً لهم ورسولاً يتلقى الوحي يحذرنا من أن نستفيد من الأحكام التي أصدرها بناء على أقوال وادعاءات مضللة، فما بالكم بأخطاء قضاتنا في هذا العصر وفي جميع العصور؟! لكن شريعتنا تطمئنا إلى أنّ الحساب العادل يوم القيامة، وأنّ الله سبحانه سيرد الحقوق إلى أصحابها، إذا كانوا قد ظُلموا بأحكام القضاة، ولن يفلت المجرمون من العقاب، إذا كانوا قد استطاعوا التهرُّب من المحاكمة أو الحصول على أحكام براءة لا يستحقونها أو بحفظ القضية لعدم كفاية الأدلة. إنّ العدالة البشرية عرجاء، بل هي عوراء، لأنها لا توقع الجزاء القانوني إلا على نسبة ضئيلة محدودة من مرتكبي الجرائم في المجتمع – فقضاتها لا ينظرون إلا عدداً محدداً من القضايا التي يوجد بها أدلة كافية وإجراءات صحيحة، في حين أنّ الأغلبية تحفظ لعدم كفاية الأدلة أو لأنّ الفاعل مجهول أو لأن أصحاب المصلحة لا يبلغون السلطة بما يقع عليهم أو ما شاهدوه من اعتداءات أو انحرافات أو مخالفة للقوانين – أو لأنّ الإجراءات شابها عيب يبطل الإجراءات القانونية. هذا كله إذا كانت القوانين ذاتها عادلة، فما بالكم إذا كان هناك عدد كبير من القوانين سيئة السمعة أو الظالمة – فيا بؤس الإنسانية إذا لم تكن هناك عدالة إلهية. إنّ الإنسانية الصالحة لا يمكن أن تعتبر الأحكام القضائية مقياساً للعدالة الصحيحة النهائية إذا لم يكن لديها إيمان ثابت بأن هناك عدالة إلهية أخروية كفيلة بتصحيح هذه الإجراءات أو المحاكمات البشرية أو الأرضية العوراء العرجاء. مزية شريعتنا إذن أنّ الجزاء العادل الكامل لا يكفي فيه أحكام القضاء ولا المحاكمات القضائية – بل نحن نؤمن قبل كل شيء بأنّ للكون إلهاً يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ويحاسب الناس جميعاً حساباً عادلاً شاملاً يوم القيامة – بدون ذلك لا يمكن أن يثق الناس بوجود عدالة في المجتمع. المصدر: مجلة المجتمع/العدد1379 لسنة 1999م

ارسال التعليق

Top